فصل: (سورة لقمان: الآيات 8- 11).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة لقمان: الآيات 8- 11].

{إنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحات لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعيم (8) خالدينَ فيها وَعْدَ اللَّه حَقًّا وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ (9) خَلَقَ السَّماوات بغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى في الْأَرْض رَواسيَ أَنْ تَميدَ بكُمْ وَبَثَّ فيها منْ كُلّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا منَ السَّماء ماءً فَأَنْبَتْنا فيها منْ كُلّ زَوْجٍ كَريمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّه فَأَرُوني ما ذا خَلَقَ الَّذينَ منْ دُونه بَل الظَّالمُونَ في ضَلالٍ مُبينٍ (11)}.
وَعْدَ اللَّه حَقًّا مصدران مؤكدان، الأوّل: مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره، لأن قوله لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعيم في معنى: وعدهم اللّه جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما حَقًّا فدال على معنى الثبات: أكد به معنى الوعد، ومؤكدهما جميعا قوله لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعيم وَهُوَ الْعَزيزُ الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه، يقدر على الشيء وضده، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء، وهو الْحَكيمُ لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل تَرَوْنَها الضمير فيه للسماوات، وهو استشهاد برؤيتهم لها، غير معمودة على قوله بغَيْر عَمَدٍ كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني فإن قلت: ما محلها من الإعراب؟ قلت: لا محل لها لأنها مستأنفة. أو هي في محل الحرّ صفة للعمد أي: بغير عمد مرئية، يعنى: أنه عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته هذا إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته. والخلق بمعنى المخلوق. والَّذينَ منْ دُونه آلهتهم، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه اللّه وأنشأه. فأرونى ما ذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال.

.[سورة لقمان: آية 12].

{وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحكْمَةَ أَن اشْكُرْ للَّه وَمَنْ يَشْكُرْ فَإنَّما يَشْكُرُ لنَفْسه وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنيٌّ حَميدٌ (12)}.
هو لقمان بن باعورا: ابن أخت أيوب أو ابن خالته. وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال: ألا أكتفى إذا كفيت؟ وقيل: كان قاضيا في بنى إسرائيل، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما ولم يكن نبيا، وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: لقمان لم يكن نبيا ولا ملكا. ولكن كان راعيا أسود، فرزقه اللّه العتق، ورضى قوله ووصيته، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته. وقال عكرمة والشعبي: كان نبيا. وقيل: خير بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة.
وعن ابن المسيب: كان أسود من سودان مصر خياطا، وعن مجاهد: كان عبدا أسود غليظ الشفتين متشفق القدمين. وقيل: كان نجارا. وقيل: كان راعيا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وروى أن رجلا وقف عليه في مجلسه فقال: ألست الذي ترعى معى في مكان كذا؟ قال: بلى. قال ما بلغ بك ما أرى؟
قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وروى أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين اللّه له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال له داود: بحق ما سميت حكيما. وروى أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين، فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب، فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا. وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود: لا تحزن، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان. أَن هي المفسرة، لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه اللّه سبحانه على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي: هو العمل بهما وعبادة اللّه والشكر له، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر غَنيٌّ غير محتاج إلى الشكر حَميدٌ حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.

.[سورة لقمان: آية 13].

{وَإذْ قالَ لُقْمانُ لابْنه وَهُوَ يَعظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْركْ باللَّه إنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ (13)}.
قيل: كان اسم ابنه أنعم وقال الكلبي: أشكم وقيل: كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال بهما حتى أسلما لَظُلْمٌ عَظيمٌ لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه، ومن لا نعمة منه البتة ولا يتصوّر أن تكون منه: ظلم لا يكتنه عظمه.

.[سورة لقمان: الآيات 14- 15].

{وَوَصَّيْنَا الْإنْسانَ بوالدَيْه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ وَفصالُهُ في عامَيْن أَن اشْكُرْ لي وَلوالدَيْكَ إلَيَّ الْمَصيرُ (14) وَإنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْركَ بي ما لَيْسَ لَكَ به علْمٌ فَلا تُطعْهُما وَصاحبْهُما في الدُّنْيا مَعْرُوفًا وَاتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أَنابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}.
أى حَمَلَتْهُ تهن وَهْنًا عَلى وَهْنٍ كقولك رجع عودا على بدء، بمعنى، يعود عودا على بدء، وهو في موضع الحال. والمعنى: أنها تضعف ضعفا فوق ضعف، أي: يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأنّ الحمل كلما ازداد وعظم، ازدادت ثقلا وضعفا. وقرئ: وهنا على وهن، بالتحريك عن أبى عمرو. يقال: وهن يوهن. ووهن يهن. وقرئ: وفصله أَن اشْكُرْ تفسير لوصينا ما لَيْسَ لَكَ به علْمٌ أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بى ما ليس بشيء، يريد الأصنام، كقوله تعالى: {ما يَدْعُونَ منْ دُونه منْ شيء}. {مَعْرُوفًا} صحابا، أو مصاحبا معروفا حسنا بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة، وما يقتضيه الكرم والمروءة {وَاتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أَنابَ إلَيَّ} يريد: واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه- وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا- ثم إلىّ مرجعك ومرجعهما، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما: من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الإخلال بها، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة. وروى: أنها نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمّه. وفي القصة: أنها مكثت ثلاثا لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاها بعود. وروى أنه قال: لو كانت لها سبعون نفسا فخرجت، لما ارتددت إلى الكفر. فإن قلت: هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان؟ قلت: هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد، تأكيدا لما في وصية لقمان من النهى عن الشرك. فإن قلت:
فقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ وَفصالُهُ في عامَيْن} كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما وصى بالوالدين: ذكر ما تكابده الأمّ وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدّة المتطاولة، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا. وتذكيرا بحقها العظيم مفردا، ومن ثمّ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟ «أمّك ثم أمّك ثم أمّك» ثم قال بعد ذلك «ثم أباك». وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه:
أحمل أمّى وهي الحمّاله ** ترضعنى الدرّة والعلالة

ولا يجازى والد فعاله

فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم: إن علمت أنه يقوى على الفطام فلها أن تفطمه. ويدل عليه قوله تعالى: {وَالْوالداتُ يُرْضعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْن كاملَيْن لمَنْ أَرادَ أَنْ يُتمَّ الرَّضاعَةَ} وبه استشهد الشافعي رضى اللّه عنه على أن مدة الرضاع سنتان، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما، وهو مذهب أبى يوسف ومحمد. وأما عند أبى حنيفة رضى اللّه عنه.
فمدة الرضاع ثلاثون شهرا. وعن أبى حنيفة: إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته، لم يكن رضاعا. وإن أكل أكلا ضعيفا لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته، فهو رضاع محرم.

.[سورة لقمان: آية 16].

{يا بُنَيَّ إنَّها إنْ تَكُ مثْقالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّماوات أَوْ في الْأَرْض يَأْت بهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطيفٌ خَبيرٌ (16)}.
قرئ: {مثْقالَ حَبَّةٍ} بالنصب والرفع، فمن نصب كان الضمير للهنة من الإساءة أو الإحسان، أي: إن كانت مثلا في الصغر والقماءة كحبة الخردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلى يَأْت بهَا اللَّهُ يوم القيامة فيحاسب بها عاملها إنَّ اللَّهَ لَطيفٌ يتوصل علمه إلى كل خفى خَبيرٌ عالم بكنهه.
وعن قتادة: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها. ومن قرأ بالرفع: كان ضمير القصة، وإنما أنث المثقال لإضافته إلى الحبة، كما قال:
كما شرقت صدر القناة من الدّم

وروى أنّ ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر- أي: في مغاصه- يعلمها اللّه؟ فقال: إنّ اللّه يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة، لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.
وقيل: الصخرة هي التي تحت الأرض، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار. وقرئ: {فتكن} بكسر الكاف. من وكن الطائر يكن: إذا استقر في وكنته، وهي مقره ليلا.

.[سورة لقمان: آية 17].

{يا بُنَيَّ أَقم الصَّلاةَ وَأْمُرْ بالْمَعْرُوف وَانْهَ عَن الْمُنْكَر وَاصْبرْ عَلى ما أَصابَكَ إنَّ ذلكَ منْ عَزْم الْأُمُور (17)}.
{وَاصْبرْ عَلى ما أَصابَكَ} يجوز أن يكون عاما في كل ما يصيبه من المحن، وأن يكون خاصا بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر إنَّ ذلكَ مما عزمه اللّه من الأمور، أي: قطعه قطع إيجاب والزام. ومنه الحديث: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» أي لم يقطعه بالنية: ألا ترى إلى قوله عليه السلام: «لمن لم يبيت السيام»، ومنه «إنّ اللّه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه».
وقولهم: عزمة من عزمات ربنا. ومنه: عزمات الملوك. وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده:
عزمت عليك إلا فعلت كذا، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله ولا مندوحة في تركه.
وحقيقته: أنه من تسمية المفعول بالمصدر، وأصله من معزومات الأمور، أي: مقطوعاتها ومفروضاتها. ويجوز أن يكون مصدرا في معنى الفاعل. أصله: من عازمات الأمور، من قوله تعالى: {فَإذا عَزَمَ الْأَمْرُ} كقولك: جد الأمر، وصدق القتال. وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، وأنها كانت مأمورا بها في سائر الأمم، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها، موصى بها في الأديان كلها.

.[سورة لقمان: الآيات 18- 19].

{وَلا تُصَعّرْ خَدَّكَ للنَّاس وَلا تَمْش في الْأَرْض مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصدْ في مَشْيكَ وَاغْضُضْ منْ صَوْتكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوات لَصَوْتُ الْحَمير (19)}.
{تصاعر} و{تصعر} بالتشديد والتخفيف. يقال: أصعر خدّه، وصعره، وصاعره: كقولك أعلاه وعلاه وعالاه: بمعنى. والصعر والصيد: داء يصيب البعير يلوى منه عنقه. والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعا، ولا تولهم شق وجهك وصفحته، كما يفعل المتكبرون. أراد:
{وَلا تَمْش تمرح مَرَحًا} أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا. ويجوز أن يريد: ولا تمش لأجل المرح والأشر، أي لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشى كثير من الناس لذلك، لا لكفاية مهم دينى أو دنيوى. ونحوه قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذينَ خَرَجُوا منْ ديارهمْ بَطَرًا وَرئاءَ النَّاس} والمختال: مقابل للماشي مرحا، وكذلك الفخور للمصعر خدّه كبرا {وَاقْصدْ في مَشْيكَ} واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين: لا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثيب الشطار. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «سرعة المشي نذهب بهاء المؤمن» وأما قول عائشة في عمر رضى اللّه عنهما كان إذا مشى أسرع فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت. وقرئ: {وأقصد} بقطع الهمزة، أي: سدّد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدّد سهمه نحو الرمية {وَاغْضُضْ منْ صَوْتكَ} وانقص منه واقصر، من قولك: فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه أَنْكَرَ الْأَصْوات أوحشها، من قولك: شيء نكر، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه: أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة: وقد عدّ في مساوي الآداب: أن يجرى ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة- وإن جعلوا حميرا وصوتهم نهاقا- ومبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه. وتنبيه على أنه من كراهة اللّه بمكان. فإن قلت: لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده.

.[سورة لقمان: آية 20].

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماوات وَما في الْأَرْض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظاهرَةً وَباطنَةً وَمنَ النَّاس مَنْ يُجادلُ في اللَّه بغَيْر علْمٍ وَلا هُدىً وَلا كتابٍ مُنيرٍ (20)}.
ما في السَّماوات الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك وَما في الْأَرْض البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى وَأَسْبَغَ وقرىّ بالسين والصاد، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ، صلخ، وفي سقر: صقر، وفي سالغ: صالغ.
وقرئ: {نعمه} و{نعمة} و{نعمته} فإن قلت: ما النعمة؟ قلت: كل نفع قصد به الإحسان، واللّه تعالى خلق العالم كله نعمة، لأنه إما حيوان، وإما غير حيوان. فما ليس بحيوان نعمة على الحيوان، والحيوان نعمة من حيث أنّ إيجاده حيا نعمة عليه. لأنه لولا إيجاده حيا لما صح منه الانتفاع، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة. فإن قلت: لم كان خلق العالم مقصودا به الإحسان؟ قلت: لأنه لا يخلقه إلا لغرض، وإلا كان عبثا، والعبث لا يجوز عليه ولا يجوز أن يكون لغرض راجع إليه من نفع، لأنه غنى غير محتاج إلى المنافع، فلم يبق إلا أن يكون لغرض يرجع إلى الحيوان وهو نفعه. فإن قلت: فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت: الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلا، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدى إلى العلم بها، وقد أكثروا في ذلك: فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء، والباطنة: الأمداد من الملائكة. وعن الحسن رضى اللّه عنه: الظاهرة: الإسلام. والباطنة الستر. وعن الضحاك: الظاهرة: حسن الصورة، وامتداد القامة. وتسوية الأعضاء. والباطنة: المعرفة. وقيل: الظاهرة البصر، والسمع، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة. والباطنة:
القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك. ويروى في دعاء موسى عليه السلام: إلهى، دلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس. ويروى: أن أيسر ما يعذب به أهل النار: الأخذ بالأنفاس.

.[سورة لقمان: آية 21].

{وَإذا قيلَ لَهُمُ اتَّبعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبعُ ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إلى عَذاب السَّعير (21)}.
معناه أَيتبعونهم وَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب. اهـ.